رياضة

ماذا فعل الاستعمار بكرة القدم الأفريقية؟

لماذا يندر لاعبو الشرق الأفريقي بل يكادون ينعدمون في الدوريات الأوروبية الكبرى، بينما يعمر أبناء القارة تلك الدوريات منذ زمن طويل؟

future صورة تعبيرية: كرة القدم الأفريقية

حين انضم موبانا علي ساماتا إلى نادي أستون فيلا قادماً من نادي جينك البلجيكي عام 2020، لم تكن مجرد صفقة انضمام لاعب أفريقي جديد لأحد أندية الدوري الإنجليزي، وإنما كان أول لاعب تنزاني تطأ قدماه الأراضي الإنجليزية عبر التاريخ.

وإن كانت تلك المعلومة القصيرة غريبة بعض الشيء؛ فإن مسيرة ساماتا الكروية أكثر غرابة. تلك التي بدأت في نادي العاصمة سيمبا التنزاني ثم عبر من خلالها الحدود إلى الكونغو الديمقراطية حيث لعب لعدة سنوات مع نادي مازيمبي، ومن بوابته خرج لعوالم الاحتراف في الدوري البلجيكي ثم كانت القفزة التاريخية إلى البريميرليغ.

وليست الغرابة في استقدام نادي أستون فيلا ساماتا، ولا في قيمة الصفقة التي بلغت 10 ملايين يورو، وإنما الغرابة كلها في خطوة انتقاله من تنزانيا إلى الكونغو، التي ربما لولاها لبقي حبيس القارة السمراء للأبد!

فما السر وراء ذلك الانتقال الذي غير مسيرة ساماتا الكروية، وكيف كانت بريطانيا العظمى سبباً في إتمام تلك الصفقة، ولماذا يندر لاعبو الشرق الإفريقي -مثل ساماتا- بل يكادون ينعدمون في الدوريات الأوروبية الكبرى بينما يعمر أبناء القارة من الجنوب والشمال والغرب تلك الدوريات منذ زمن طويل؟

أفريقيا والتاريخ الاستعماري: بعضُ الشر أهون من بعض!

كان للمد الاستعماري الأوروبي في أفريقيا أثر واضح على اللغة، وخطوط الهجرة، ومسارات النزوح وغيرها. ولم تكن كرة القدم بمعزل عن ذلك التأثر؛ فقد حرصت دول الاستعمار الأوروبية على خلق قنوات تواصل وشبكات علاقات بينها وبين مستعمراتها في تلك الدول، حتى يتيسر لها نقل اللاعبين الأفارقة المتميزين إلى دوريات بلادهم.

بدأت فرنسا في استقدام اللاعبين من الشمال الأفريقي والمغرب والجزائر منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وضمتهم إلى الأندية الفرنسية. بل ومنحت بعضهم الجنسية الفرنسية ليمثلوها في المحافل الدولية. ثم حذت البرتغال حذو فرنسا، وجعلت من مستعمراتها في أنغولا وموزمبيق وغينيا، منجماً لتوريد الجواهر السمراء إلى بلادهم، وسارت بلجيكا على نفس النهج واتخذت من مستعمراتها في «زائير-الكونغو الديمقراطية حالياً»، بوابة لعالم اللاعبين الأفارقة المأهول بالموهبة الصافية، زهيدة السعر، غزيرة الإنتاج.

هذا في غرب القارة وشمالها، ولكن قصة الشرق مختلفة.

كان الشرق الأفريقي، وأكبر دوله كينيا وأوغندا وتنزانيا واقعاً تحت سطوة الإمبراطورية البريطانية التي نحت منحىً آخر، أكثر تحفظاً في التعامل مع مواطني مستعمراتها، في ما يتعلق بكرة القدم والهجرة.

فعلى النقيض تماماً من النهج الفرنسي؛ فرضت بريطانيا قيوداً على اللاعبين الأفارقة تُلزمهم بقضاء سنتين كمؤهلٍ للحصول على إقامة شرعية. وهو ما يعني أن أولئك اللاعبين لن يتاح لهم إلا اللعب كهواة في تلك البلاد. ناهيك عن أنها لم تكلَف بتطوير قنوات للتواصل واستكشاف اللاعبين، وجلبهم من مستعمراتها بالأساس.

وبقيت بريطانيا على تلك الحالة، منغلقة بشكل كبير على لاعبيها من الإنجليز والإيرلنديين حتى صدر قانون بوسمان عام 1995 الذي يسمح بالانتقال الحر للاعبين بين دول الاتحاد الأوروبي بعد انتهاء عقودهم. فزادت أعداد اللاعبين الأفارقة في الدوريات الأوروبية الكبرى بشكل ملحوظ، لكن التوزيع القائم على الإرث الاستعماري ظل قائماً أيضاً.

آرثر كوامي وارتون، لاعب شيفيلد وساندرلاند السابق، أول أفريقي يلعب كرة القدم الاحترافية في العالم

وللأرقام دلالتها؛ فنجد في عام 2019، أن عدد اللاعبين المحترفين من السنغال في فرنسا بلغ 42 لاعباً من أصل 187 لاعباً سنغالياً محترفاً حول العالم، ومن المستعمرات البرتغالية في غينيا بيساو، ينشط خمسة لاعبين من أصل 11 لاعباً غينياً محترفاً حول العالم، ومن مستعمرات بلجيكا في الكونغو، ينشط أربعة لاعبين من أصل 24 لاعباً كونغولياً محترفاً حول العالم.

وهي أرقام لها وزن نسبي كبير، إذا ما قورنت بوضع لاعبي المستعمرات البريطانية في الدوري الإنجليزي، الذين لم تشفع لهم موهبتهم وتألقهم على المستوى الدولي في تحصيل تمثيل معتبر، إذ نجد أن خمسة من أصل 327 لاعباً نيجيرياً محترفاً حول العالم، واثنين من أصل 274 لاعباً غانياً محترفاً حول العالم، هم فقط من يمثلون تلك المستعمرات البريطانية السابقة في الدوري الإنجليزي.

لذلك كانت خطوة انتقال ساماتا من سيمبا إلى مازيمبي هي الأهم في مسيرته، إذ أتاحت له أن يستفيد من شبكة العلاقات الكونغولية البلجيكية التي لم يكن ليحصل أي فائدة من ورائها لو بقي في تنزانيا، إذ لن يراه أحد.

ثقافة الاغتراب بين الشرق والغرب

تشيع في معظم دول أفريقيا ثقافة الخلاص والهجرة، شأنها في ذلك شأن بقية الدول النامية حول العالم. لكن هناك تبايناً واضحاً بين دول غرب القارة وشرقها في ما يخص تلك الثقافة وتمحورها حول كرة القدم تحديداً.

وبحسب ما أثبتت دراسة أجراها باحثان في جامعة إيراسموس روتردام الهولندية؛ فإن ثقافة الهجرة حاضرة بقوة في غرب القارة بأجيالها المختلفة، مهما تباينت الأسباب من بحث عن فرص العمل والتعليم أو توقاً للحياة الحضرية في الدول المجاورة. وقد أصبحت الهجرة تجاه أوروبا وأمريكا هي القاعدة الاجتماعية الغالبة عند الشباب في الغرب الأفريقي.

هذا التوق لحياة أفضل انعكس بدوره على كرة القدم، وقد ترسخ لدى أولئك اللاعبين الصغار أن المستقبل المهني الأفضل مرتبط بشكل وثيق بالهجرة إلى الخارج.

وقد ساعدت عدة عوامل على ترسيخ تلك الثقافة، من بينها ما تقدم ذكره من قنوات اتصال تربط بين تلك الدول والمجتمعات الكروية الأوروبية، وأيضاً اتساع رقعة البث والدعاية التلفزيونية لتشمل تلك الدول، فأصبح حلماً راسخاً لدى الشباب، أن الأحلام يمكن أن تصبح حقيقة هناك عبر المحيط. أما العامل الأهم، فيتمثل في اللاعبين اللامعين الذين قد سبقوهم، وربما خرجوا من نفس المكان الذي خرجوا منه؛ فأصبح لديهم من يمكن اقتفاء أثره والسير على خطاه.

وإذ يشترك أبناء الشرق والغرب في توقهم إلى حياة أفضل، واعتقادهم أن تلك الحياة تكمن في بلاد ما وراء المحيط؛ إلا أن ذلك التوق الشرق أفريقي لم يتجاوز عتبات الوجدان، وبقي خاطراً حبيساً في النفس، ولم يثمر عبر السنين عن أي محاولات اجتماعية لتغيير ثقافة عدم الاغتراب المنتشرة بين أفراد هذا المجتمع.

أضف لذلك، غياب التمثيل الشرق أفريقي في الساحة الكروية العالمية، فبينما يجد الشباب في السنغال ساديو ماني مثالاً يمكن أن يرنو إليه، ويجد أقرانهم في ساحل العاج دروجبا، فلمن سيتطلع الشباب التنزاني، وعلى خطى من سيسير الشاب الأوغندي، ومن سيتبع الشاب الكيني؟

في الحقيقة، هنالك نماذج للاحتذاء والاحتفاء، وهم اللاعبون المحليون الذين يجدون في المقابل الجيد الذي توفره لهم ممارسة الكرة على هذا القدر من الاحتراف سبيلاً لحياة كريمة بل ومميزة على الأغلب تكفيهم وعثاء السفر وسوء المنقلب في أوروبا.

حتى لو نزع أحدهم عن عاتقه نِير تلك الثقافة البالية؛ فإن عائقاً أكبر سيكون بانتظاره هناك ولن يجد وجهاً مألوفاً يعاونه على احتمال الحياة الجديدة والتأقلم السريع معها.

سياسة الكرة والجينات بين الشرق والغرب

فازت دول غرب القارة الأفريقية مجتمعة ببطولة الأمم 18 مرة، من ضمنها البطولة الأخيرة التي كسبتها ساحل العاج على أرضها. أما الإنجاز الأكبر في سجلات كرة شمال أفريقيا، فيعود لبطولة أمم

أفريقيا 2019، إذ كانت المرة الأولى التي تتجاوز فيها فرق (كينيا وأوغندا وتنزانيا) التصفيات وتتأهل معاً إلى دور المجموعات في البطولة!

ولا يمكن اختزال التفوق الغربي والانحسار الشرقي في التاريخ الاستعماري والسياسات الكروية فحسب، رغم ما أُثبت عن ذلك في دراسة نُشرت في مجلة الكرة والمجتمع، أن سوء التنظيم الإداري والاختلاس من الدعم المادي المحدود أصلاً مع استشراء الفساد السياسي، كلها عوائق تنظيمية، رسخت لدى تلك البلدان «هوية فشل»، أثرت بشكل ملحوظ على تطور الكرة في شرق القارة.

ولكن هناك عاملاً جينياً أنثروبولوجياً، يدخله كثير من العلماء كعامل كبير في التباين الواضح بين شرق القارة وغربها.

من بينهم، بروفيسور علوم الرياضة والتدريب الجنوب أفريقي «تيم نوكس»، الذي أرجع ذلك التفوق الغربي إلى فروق جينية وبيئية. فالغربيون يمتلكون أضخم بنية جسدية بين كل سكان القارة، وهو ما يفسر تفوقهم مثلاً في عدو المسافات القصيرة.

أما الشرقيون فأجسادهم أقل في البنية وأخف في الحجم ويتشاركون في ذلك مع أقرانهم في الجنوب والشمال. وهي الملاحظة نفسها التي توصل لها كبير العلماء في أبحاث الأداء البشري «بنجيت ستالين» من مركز كوبنهاجن لأبحاث العضلات قبل 20 عاماً من الآن.

أما جون إنتين عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي، فيذهب إلى أن تخلف لاعبي شرق القارة في كرة القدم، ليس مفاجأة. بل إنه يذهب لأبعد من ذلك بوصفهم من بين الأسوأ في العالم، ولا علاقة لذلك بالتاريخ الاستعماري ولا الاختلافات الثقافية وإنما هي الجينات البحتة.

# كرة القدم الأفريقية # كرة القدم العالمية # أفريقيا

هانزي فليك: شراسة العالم خلف هدوء حي ماكينلوش
الطابق المسحور: أين اختفى جيل منتصف التسعينيات؟
أتلتيك بيلباو: أسطورة الولاء للإقليم

رياضة